حياٌة أدبًا "الثقافةُ لا تُشرى ولا تُباع" ألوَحيد-ناجي نعمان (لبنان)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
حياة أدبا

حياٌة أدبًا
"الثقافةُ لا تُشرى ولا تُباع"
ألوَحيد

  ناجي نعمان    

لَحظَةَ أَقْلَعَتِ الطَّائرَةُ حَلَّ في قَلبِه خَوفان: خَوفٌ آنِيٌّ مُستَحْدَثٌ من المُغامرة برُكوب الفَضاء، وخَوفٌ دائِمٌ قديمٌ مِن فِراق مَن لَمْ يُفارِقْ يَومًا، أُمِّه.
مناسبةُ الخَوف الأوَّل سَفَرٌ أوَّلُ، وإنْ في عمر الخَمسين، للمُشاركة في مِهرَجانٍ شِعريٍّ لَطالما دُعِيَ إليه، واعتَذَر، حتَّى لَمْ يَعُدْ لاعتِذاراتِه من حُجَّة، فلَبَّى. وأمَّا مناسبةُ الخَوف الثَّاني فأمٌّ أولى، وأخيرة، لِرَجُلٍ وَحيد، لطفلٍ وَحيدٍ فَقَدَ والدَه من دون أنْ يُدْرِكَ ما فَقَد، وحَضَنَتْه والدتُه في غَيريَّةٍ قاتِلَة، بحَيثُ وَقَفَتْ حياتَها عليه، فلَكأنَّها النَّحلُ تُعَسِّلُ خارجَ البيت لتأمين لُقمة العَيش، وداخلَه لتأمين حاجاتِ وَحيدها، ولَكأنَّها النُّسْكُ يُحافِظُ على أمانة زَوجٍ رَحَل، وأَطالَ الرَّحيل.
وحَلَّقَتِ الطَّائرةُ عاليًا، فارتاحَ المُسافِرُ من الضَّغط الجوِّيّ، وتَعَوَّدَ فكرةَ وجوده في آلةٍ تَتَحَكَّمُ بمَصيره مُعَلَّقًا بين سماءٍ وأرض. وحَلَّقَ، هو، بذِكرياتِ طفولةٍ أَتَتْه سريعةً كما لَو كانَ على مَوْعدٍ مع المَوْت:
ها إنَّه يَلْهو مع فِتيَة الحَي؛ ها إنَّ كَهْرَباءَ الحُبِّ تَسْري بين عَيْنَيه وعَينَي ابنة الجيران؛ ها إنَّ همومَ الدِّراسة تَزيدُ يومًا فيومًا، والمُستَقبَلَ يَرْتَسِم؛ ها إنَّه يَتَخَرَّجُ في اللُّغة والأدب في زَمَنٍ غَدَتِ الحياةُ فيها تَعْتَمِدُ على قلَّةِ أدبٍ لا لُغةَ لها، فيما والدتُه في دُموعٍ ما ذَرَفَتْ مثلَها منذ غياب أبيه؛ ها إنَّ الحربَ تَحُلُّ ببلده، وتَعْبُرُه إلى دولٍ أخرى، وتَسْتَمِرُّ بلا قضيَّةٍ، لا، ولا هَدَف؛ ها إنَّه يَبْلُغُ نصفَ القرن وما زالَ من دون زواج، يَعيشُ لِلَّتي عاشَتْ له؛ ها إنَّه يُمْضي وقتَه في مجَّانيَّة العَمل وغَيريَّة الاهتمام، يُسْأَلُ ولا يَسْأَل.
وحَطَّتِ الطَّائرة، فارتاحَ قَلبُه. إتَّصالُه الأوَّلُ كانَ بأمِّه، لطَمأنَتها. بَكَتْ وبَكَت، فأَبْكَتْه، ووَعَدَها أنْ يُكَلِّمَها كلَّ يومٍ عند المَغيب، وهكذا فَعَل.
ثمَّ كانَ مِهرَجانُ شِعرٍ دَوليٌّ لَمْ يَجِدْ فيه نفسَه، فلا هو اعْتَبَرَ نَفسَه يومًا شاعِرًا، ولا هو يَقْرَأُ الشِّعر؛ حتِّى إنَّه لَطالما نَسِيَ الخَواطِرَ الَّتي يَكْتُب، فيما كانَ الكثيرون يُرَدِّدونها غَيبًا، مُعْتَبِرين إيَّاها شِعرًا.
وانْتَهى المِهرَجان، ولَكَم كانَتْ دَهشَةُ صاحبِ الخَواطِر عظيمةً عندما حازَ جائزتَه الكبرى. وإذ وَقَفَ ليُلْقِيَ كلمتَه لِلمُناسبة، رَدَّدَ أنْ "ما مِن شاعِرٍ بل مُحاوِل" وسطَ عُبُوس "الشُّعراء" المُشارِكين وتَصفيق جُمهور الحاضِرين.
إنتهى المِهرجان، وما كانَ في بال المُسافِر سوى العودةِ إلى والدته. كَلَّمها عند المَغيب، أَخْبَرَها بما يُثْلِجُ قلبَها من جائزةٍ نال، وبما يُطَمْئِنُه من عودةٍ إلى حِضنها مع مَغيب اليوم التَّالي.

كانَ الإيابُ، كالعادة، أَسرَعَ من الذَّهاب، وأسهَل. حَطَّتِ الطَّائرة. لَمْ يَجِدْ والدَتَه في انتظاره. فَكَّرَ أنَّها اسْتَجابَتْ طَلَبَه عَدَمَ إزعاج نفسها بلِقائه في المَطار. إستَقَلَّ سيَّارةَ أُجرَة. وَصَلَ بيتَه، عَرينَ والدته. رَأَى جَمْعًا أمام المَدخَل. ظَنَّ أنَّ خَبَرَ الجائزة انْتَشَر، فيما المُحِبُّون كُثُر. هَرَعَ لِلِّقاء المُنتَظَر. فجأةً، قَرَأَ وُجومًا على وُجوه الحاضِرين. إِرْتَعَبَ. أَكْمَلَ رَكضَه.

عندَ مدخَل البَيت-العَرين وَجَدَ اللَّبْوَةَ مُلْقاةً على الأرض. كانَتْ، على ما يَبْدو، تُحاوِلُ فَتحَ الباب طَلَبًا لمَن يُسْعِفُها. لَمْ تُوَفَّق. ولمَّا سَمِعَ الجيرانُ أنينَها، خَلَعوا البابَ لِتَنْطُقَ آخِرَ كلماتِها: وَلَدي، وَلَدي... وكأنَّها تَطْلُبُ نَجدَةَ مَن لَطالَما أَنْجَدَت، أو تَسْأَلُ عنه للمرَّة الأخيرة.
قيلَ للشَّاعِر العائِد، بعدَ دقائِق، وكانَ لا يَزالُ مُسَمَّرًا أمامَ الوالدة-الجثَّة، إنَّ طائرةً أَقْلَعَتْ بعد ساعةٍ من مَطار إقلاع طائرته، قاصِدَةً مَقصَدَها، قد سَقَطَتْ في البَحر. أَتُرى سَمِعَتِ الوالدةُ بالخَبَر؟ سؤالٌ سيَطرَحُه اليَتيمُ على نَفسه عند كلِّ مَغيب.



  من "المُسالِم" - من الجُزء الثالث
©الحقوق محفوظة - دار نعمان للثقافة
  ناجي نعمان (لبنان) (2009-11-11)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

حياٌة أدبًا

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia